نُشِر المقال بمجلة الهلال في 1 يوليو عام 2003
تنفست مصر الصعداء بمجرد نجاح حركة الجيش في الإطاحة بالملك فاروق الأول، على أن هذا الارتياح سرعان ما أخذ في الانحسار حين لم يشعر الشعب بتغييرٍ ملموس، حتى إن رسام الكاريكاتير المصري الشهير عبد السميع عبد الله رسم لوحة كاريكاتيرية في روز اليوسف القاهرية، وفيها يطلب ابن الشعب المصري إلى أحد البقالين أن يفك له «فاروق بصاغات»، ودلالات هذه اللوحة في غير حاجة إلى توضيح، إذ تؤكد بأن التغيير كان في الأشخاص فحسب. فالملك فاروق حلّ محلّه بضعة ضباط معظمهم يحمل رتبة صاغ (رائد)!
بدأ التعامل الشعبي يتحول إلى سخطٍ عارم، مع ظهور مؤشرات قوية على ارتباط حركة الجيش بالأمريكان، ولم تستطع المبادئ الستة للحركة أن ترضي الطموح الشعبي المصري؛ إذ بقيت مجرد حبرٍ على ورق، بدءًا من الاستقلال الوطني، إلى محاربة الاستعمار وأعوانه، والقضاء على سيطرة الإقطاع، والاحتكار، ورأس المال على الحكم، عبر بناء جيش وطني قوي، وعدالة اجتماعية، وحياة ديمقراطية سليمة. كما أن الشعار الثلاثي الذي استحدثته حركة الجيش والمتمثّل في «الاتحاد والنظام والعمل»، لا يسمن ولا يغني من الجوع، والشيء نفسه يمكن قوله على قرار إحلال «البيرية» محل الطربوش كغطاء للرأس.
تجمعت مؤشراتٍ وقرائنٍ عدة على ارتباط حركة الجيش بالأمريكيين، فهذه الحركة جاءت في شكل انقلاب عسكري في الوقت الذي اعتمدت فيه الولايات المتحدة صيغة الانقلابات العسكرية في أقطار العالم الثالث وسيلة رئيسية لوراثة الإمبرياليتين المتداعيتين: بريطانيا وفرنسا، في مستعمراتهما ومناطق نفوذهما.
الأمر الذي تعزّز مع انكشاف أمر إبلاغ «الضباط الأحرار» السفارة الأمريكية في القاهرة، دون سواها من السفارات، بساعة تحرك الجيش من ثكناته ضد النظام الملكي، وجاء هذا الإبلاغ كما هو معروف عبر مسؤول مخابرات الطيران المصري آنذاك، قائد الجناح علي صبري.
فيما أعلن مسؤول المخابرات المركزية الأمريكية في مصر وقتها، كيرميت روزفلت، بأنه فتش عن الضباط الأحرار قبل حركة الجيش، فلم يجدهم، وإن كانوا هم الذين وجدوه! بعد أن نجحت حركة الجيش أعلن روزفلت نفسه بأن ضباط هذه الحركة «نزلوا إلينا من السماء»، ذلك أن الولايات المتحدة كانت قد فقدت الأمل تمامًا في تقويم السلوك الأخلاقي المشين للملك فاروق.
في السياق نفسه، من يمكنه أن ينسى السفير الأمريكي في القاهرة آنذاك، جيفرسون كافري، وهو يرافق الملك فاروق من قصر رأس التين في الإسكندرية إلى اللنش الذي نقل الملك إلى حيث يرسو يخت «المحروسة»، والذي نقل فاروق إلى أوروبا؟ وأن فاروق كان قد استنجد هاتفيًا بكافري في وجه تهديد حركة الجيش له إذا لم يتنازل عن العرش، فما كان من السفير الأمريكي إلا أن نصح جلالته بالإذعان للتهديد وتوقيع وثيقة التنازل عن العرش، فضلًا عن أن الولايات المتحدة نصحت بريطانيا بعدم تحريك قواتها في قناة السويس ضد حركة الجيش.
ما كان لهذه المؤشرات والقرائن إلا أن تتجلى في غير موضع، فمجلس قيادة الثورة عيّن القائم مقام (العقيد) عبد المنعم أمين عضوًا في المجلس ليلة التحرك (23/7/1952)، وقد عُرف عن أمين صلاته الودية بالسفارة الأمريكية، ناهيك عن الحضور الملموس لأصدقاء الولايات المتحدة الأمريكية في محيط حركة الجيش، خاصةً مصطفى وعلي أمين.
إلى ذلك، أذعن مجلس قيادة الثورة فورًا لطلب السفارة الأمريكية بالعدول عن تكليف القانوني المصري الشهير عبد الرزاق السنهوري بتشكيل الوزارة التي ستخلف وزارة علي ماهر باشا الذي استقال في (7/9/1952). وقد احتجّت السفارة الأمريكية في هذا الصدد بمجرد إقدام السنهوري على توقيع نداء ستوكهولم للسلام، الذي وقفت أحزاب شيوعية وراء إصداره، على الرغم من انتماء السنهوري المعروف للحزب السعدي المعادي للشيوعية.
ثم ما كان من المواقف غير الودية لحركة الجيش تجاه الشيوعيين المصريين والحركة النقابية المصرية. وأذكر أن حركة الجيش عمدت إلى الإفراج عن كل الذين اعتقلهم النظام الملكي في الأشهر الستة التي سبقت حركة الجيش، حين أعلنت حكومة الوفد الأحكام العرفية غداة حريق القاهرة الشهير (26/1/1952)، فأقصاها الملك فاروق بعد أن ورّطها بإعلان الأحكام العرفية التي استخدمتها أجهزة الأمن المصرية ضد مختلف القوى الوطنية المصرية: (مصر الفتاة – الوطني الجديد – الشيوعيين).
واللافت أن قرار الإفراج استثنى ثمانية من الشيوعيين من قادة حدتو وكوادرهم، فيما كانت حركة «حدتو» قد أسهمت في حركة الجيش والتحضير لها، وقد امتلكت نحو ثلث مجموع الضباط الأحرار الذين تمركزوا يوم (23/7/1952).
والأنكى أن عبد الناصر صرّح بأن حركة الجيش أفرجت عن كل من اعتُقل (16/10/1952) بعد حريق القاهرة عدا ثمانية عملاء لبلد أجنبي، فرأس أولئك الثمانية، يوسف حلمي، للرد على عبد الناصر ببرقية غاضبة قائلًا له: «نعم، نحن عملاء لبلد أجنبي عنك هو مصر». وكان عبد الناصر قد كتب مقدمة كتاب معادٍ للشيوعية، ألّفه كل من أمين شاكر، وسعيد العريان، وعلي أدهم، حمل عنوان «حقيقة الشيوعية»، وصدر في ثلاث طبعات متتالية بين سنتي (1953 و1955) من دار المعارف القاهرية، ضمن سلسلة «اخترنا لك».
ثم توسعت حركة الجيش في اعتقال الشيوعيين اعتبارًا من (16/1/1953)، ومن ضمنهم الرئيس التنفيذي للضباط الشيوعيين في «الضباط الأحرار» آنذاك (الرائد) أحمد حمروش، كما نحّى مجلس قيادة الثورة عن عضويته، وعن وزارة الأوقاف بضربة واحدة، ذلك الضابط الشيوعي يوسف صديق، الذي أنقذ حركة الجيش بمبادرة على مسؤوليته، حين حرّك قواته قبل ساعة الصفر بساعة كاملة، بمجرد علمه بتسرّب أمر حركة الجيش إلى قيادة الجيش، والتي سارعت إلى الالتئام في قصر القبة، لمواجهة الحركة، وهو القائم مقام (العقيد) يوسف.
فضلًا عن العداء الذي أظهرته حركة الجيش للطبقة العاملة المصرية وحركتها النقابية، وتجلى هذا العداء في الأحكام الجائرة التي صدرت في حق زعماء الإضراب في مصانع النسيج بكفر الدوار، والتي قضت بإعدام كل من مصطفى خميس ومحمد حسن البقري، المتهمين بتنظيم الإضراب، فيما لم يمسّ المالك المشتبه في تحريضه للعمال (12، 13/8/1952).
لقد حافظت علاقة حركة الجيش بالأمريكان على درجة عالية من الحرارة على مدى نحو ثلاثة أعوام متصلة، وحين أخذت هذه العلاقة في الفتور، ظن البعض أن تكنيك حركة الجيش المبكر كان استغلال التناقضات بين الأمريكيين والبريطانيين في تحقيق جلاء قوات الأخيرة عن مصر، وما أن تحقق هذا المكسب حتى أدارت للولايات المتحدة ظهر المجن.
على أن الأمر لم يكن على هذا النحو، كما لم تكن حركة الجيش صنيعة أمريكية، وكل ما في الأمر أن المتنفذين في مجلس قيادة الثورة كانوا لا يعرفون حقيقة الإمبريالية الأمريكية، حتى إن عبد الناصر لم يمنع نفسه من التطلع إلى تحديث مصر على غرار ما فعل كمال أتاتورك، وبمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية.
لكن إسرائيل كانت لعبد الناصر بالمرصاد، فحاولت ضرب علاقة حركة الجيش بالأمريكان والإنجليز عبر التفجيرات التي نظّمها فرع المخابرات الإسرائيلية في مراكز أمريكية وبريطانية في القاهرة والإسكندرية (يوليو 1954)، للإيحاء بأن حركة الجيش هي التي نظّمت تلك الانفجارات، ما يحبط محادثات الجلاء مع الإنجليز، ويدفع الأمريكان إلى النفور من حركة الجيش.
لكن المصادفة وحدها أفضت إلى اعتقال أحد عملاء إسرائيل، فانكشف أمر المؤامرة الإسرائيلية التي خُطط لها بأوامر من الرمز الصهيوني المعروف ديفيد بن جوريون في وزارة الدفاع الإسرائيلية، وإن حُرّفت أدلة الاتهام، فاتجهت إلى وزير الدفاع نفسه آنذاك إسحاق لافون، ما جعل المؤامرة المكشوفة تحمل اسم «فضيحة لافون»، وإن كان الوزير المظلوم بريئًا لاحقًا.
وحين فشل بن جوريون، وهو خارج الحكم، عاد إليه في أواسط فبراير 1955، خلفًا لموشيه شاريت، وبعد أيام شنّت الوحدة العسكرية الإسرائيلية (101) بقيادة أرييل شارون هجومًا مسلحًا (28/2/1955) على بعض المواقع في غزة وضواحيها، سقط ضحيته زهاء أربعين مصريًا وفلسطينيًا وسودانيًا، فاندلعت انتفاضة شعبية في قطاع غزة طالبت بتحصين القطاع، وتسليح شعبه، وإسقاط مشروع سيناء، الذي كانت الحكومة المصرية قد اتفقت على تنفيذه (1953)، لتوطين اللاجئين إلى مصر وقطاع غزة في منطقة بشمال غربي سيناء، ضمن مشاريع توطين أخرى هدفت الولايات المتحدة من ورائها إلى طيّ القضية الفلسطينية.
لم يفِ عبد الناصر بالوعد الذي أخذه على نفسه بتحقيق كل مطالب المنتفضين فحسب، بل أضاف إليها تشكيل وحدات فدائية فلسطينية حملت اسم «الكتيبة 141»، وأوكل أمر قيادتها إلى البكباشي (المقدم) مصطفى حافظ، وهي الوحدات التي ألحقت بإسرائيل خسائر بشرية فادحة خلال بضعة أسابيع (1387 قتيلًا).
كما استدار عبد الناصر إلى الاتحاد السوفييتي طالبًا السلاح بعد أن حجبه عنه الأمريكان (سبتمبر 1955)، وما كان من طلب الإدارة الأمريكية إلى عبد الناصر إلغاء صفقة الأسلحة هذه، ورده بالرفض، مما دفع الإدارة الأمريكية إلى سحب عرضها تمويل مشروع السد العالي، وفي أذيال تلك الإدارة سار مدير البنك الدولي آنذاك برئاسة يوجين بلاك، ما اضطر عبد الناصر إلى تأميم قناة السويس، ليبني منها السد العالي، الذي حلم به الزعيم الراحل في سبيل تنمية مصر وتقدّمها.
ثم ما كان من ردود الفعل الغريبة ضد قرار التأميم هذا، التي توجهت بالعدوان الثلاثي (29/10/1956) على مصر وقطاع غزة، وهو العدوان الذي باركته الإدارة الأمريكية بدايةً، ثم عادت ورفضته في محاولة لوراثة الاستعمارين البريطاني والفرنسي في المنطقة، ومنع السوفييت من استثمار هذا العدوان لتعزيز الحضور السوفييتي.
ولهذا قصة تُروى.